تنطلق به الحافلة عبر الصحارى باتجاه الأفق الداكن حيث مدينته ، يتململ في مقعده لكنه لا يخرج من هدوئه. يحمل في حقيبته هدايا نسائية لزوجته، كم يشتاق لوجبة إفطار معها، الإفطار الذي لم يعرفه على الجبهة. ينظر إلى أبعد من الأفق والغبار، طلع الغياب ذاهلا عن كل شيء، تذبل عيناه، تمر صورتها في لقائهما الأول، جدائل الشعر المذهب تستفز الشمس وتتلو سبحات هوى على رقبة من مرمر، أهدابها جناح عصفور، وفي وجنتيها شفق ٌ يتفجّـر، خمرة الشفتين تنحني أمامها قامة الصفصاف
'دثّريني برائحتك البرية..أريد أن أحتمي بظلّكِ من نورك
تضحك، وجهها يتّسع لفرح أطفال العالم، تتعلق بخصره ويسيران معا على النهر.
يلتصق عصفور على زجاج المقدمة في الحافلة، كان يريد الخلاص وخانته قواه، يسقط ويبقى الدم عالقا، يترك مقعده راجيا من السائق أن يتوقف لغسل الدماء، اعتبرها طقسا من طقوس الجنازة، كان السائق يتأمل هذه الحماقة بهدوء.
يترجّل من القافلة يحمل حقيبته وأشواقه في سيارة أجرة إلى البيت، يفتح الباب بمفتاح..لا صوت، لا حركة، يرى طفلا جميلا نائما بجانب جدّته، يقبله ويتركهما بهدوء ليبحث عنها في الدار، لم يجدها، لم يكن هناك سوى رائحة ولادة
'أثناء الولادة أخطأوا معها يا بني. توفيت بعد الولادة بأيام'، وشهقت الجدة بالبكاء. تجمّدت كل عروقه وأعصابه التعبة
عند الفجر حمل ابنه إلى النهر، ودّعه بقبلة وبحنان وضعه على الضفة ومشى فوق الماء، أخذه النهر بعيدا بهدوء، وبقيت صرخات طفل على الضفة تهشّم وجه فجر جديد
ليال نبيل